0
Al Muqaddima Part 122 : الفصل 18 في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده - Ibn Khaldoun - إبن خلدون
0 0

Al Muqaddima Part 122 : الفصل 18 في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده Ibn Khaldoun - إبن خلدون

Al Muqaddima Part 122 : الفصل 18 في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده - Ibn Khaldoun - إبن خلدون
الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده قد بينا لك فيما سلف أن الملك و الدولة غاية للعصبية و أن الحضارة غاية للبداوة و أن العمران كله من بداوة و حضارة و ملك و سوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً و تبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه و نموها و أنه إذا بلغ سن الأربعين و قفت الطبيعة عن أثر النشوء و النمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة و التخلق بعوائدها و الحضارة كما علمت هي التفنن في الترف و استجاده أحواله و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه و سائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية و لسائر أحوال المنزل. و للتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة و عدم التأنق فيها. و إذا بلغ أن التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها و لا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها و أما دنياها فلكثرة الحاجات و المؤنات ائتي تطالب بها العوائد و يعجز و ينكب عن الوفاء بها. و بيانه أن، المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله و الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. و قد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه و أشعار حاجته. ثم تزيدها المكوس غلاة لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها و هو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. و المكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة و التجار كلهم يحتسبون على سلعهم و بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات و أثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة و تخرج عن القصد إلى الإسراف. و لا يجدون و ليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد و طاعتها و تذهب مكاسبهم كلها في النفقات و يتتابعون في الإملاق و الخاصة و يغلب عليهم الفقر و يقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق و يفسد حال المدينة و داعية ذلك كله إفراط الحضارة و الترف. و هذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق و العمران. و أما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد و التعب في حاجات العوائد و التلون بألوان الشر في تحصيلها و ما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق و الشر و السفسفة و التحيل على تحصيل المعاش من وجهه و من غير وجهه. و تنصرف النفس إلى الفكر في ذلك و الغوص عليه و استجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب و المقامرة و الغش و الخلابة و السرقة و الفجور في الأيمان و الربا في البياعات ثم تجدهم لكثرة الشهوات و الملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق و مذاهبه و المجاهرة به و بداوعيه و اطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب و ذوي الأرحام و المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. و تجدهم أيضاً أبصر بالمكر و الخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر و ما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة و خلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله. و يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة و يجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب و أهملته الدولة من عدادها و غلب عليه خلق الجوار و إن كانوا أهل أنساب و بيوتات و ذلك أن الناس بشر متماثلون و إنما تفاضلوا و تميزوا بالخلق و اكتساب الفضائل و اجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، و فسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه و لا طيب منبته. و لهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت و ذوي الأحساب و الأصالة و أهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم و ما تلونوا به من صبغة الشر و السفسفة و إذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها و انقراضها و هو معنى قوله تعالى:” و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً”. و وجهه حينئذ إن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد و مطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم. و إذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة و خربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به. و ليس المراد ذلك و لا أنه خاصية في النارنج و إنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة. ثم أن النارنج و اللية و السرو و أمثال ذلك مما لا طعم فيه و لا منفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف. و هذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر و خرابه كما قلناه. و لقد قيل مثل ذلك في الدفلى و هو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض و هو من مذاهب الترف. و من مفاسد الحضارة الإنهماك في الشهوات و الاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل و الملاذ و المشارب وطيبها. و يتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا و اللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع. إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين و القيام عليهم فيهلكون، و يؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً و هو أشد في فساد النوع. و الزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. و لذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره، و دل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح.

فافهم ذلك و اعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة و الترف و أنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد و أخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة و الترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه و دفع مضاره و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته أما عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفاً لما حصل من المربي في النعيم و الترف و كلا الأمرين ذميم. و كذلك لا يقدر على دفع المضار و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري بما قد فقد من خلق الإنسان بالترف و النعيم في قهر التأديب و التعلم فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً غالباً بما فسدت منه العوائد و طاعتها في ما تلونت به النفس من مكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر. و إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه و دينه فقد فسدت إنسانيته و صار مسخاً على الحقيقة. و بهذا الاعتبار كان الذين يتقربون من جند السلطان إلى البداوة و الخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة و خلقها. موجودون في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران و الدولة و الله سبحانه و تعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن.
Comments (0)
The minimum comment length is 50 characters.
Information
There are no comments yet. You can be the first!
Login Register
Log into your account
And gain new opportunities
Forgot your password?